فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ الْغَنَائِمِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ الْغَنَائِمِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا:

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْغَنَائِمِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا، فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ- هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: النَّفَلُ، وَالْفَيْءُ، وَالْغَنِيمَةُ فلابد مِنْ بَيَانِ مَعَانِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الشَّرَائِطِ وَالْأَحْكَامِ.
(أَمَّا) النَّفَلُ فِي اللُّغَةِ فَعِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ وَلَدُ الْوَلَدِ نَافِلَةً؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْوَلَدِ الصُّلْبِيِّ، وَسُمِّيَتْ نَوَافِلُ الْعِبَادَاتِ لِكَوْنِهَا زِيَادَاتٍ عَلَى الْفَرَائِضِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا خَصَّهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ الْغُزَاةِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، سُمِّيَ نَفْلًا لِكَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى مَا يُسْهَمُ لَهُمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَالتَّنْفِيلُ هُوَ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْغُزَاةِ بِالزِّيَادَةِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ: مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَلَهُ رُبْعُهُ أَوْ ثُلُثُهُ أَوْ قَالَ: مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ أَوْ قَالَ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا أَوْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ أَوْ قَالَ لِسَرِيَّةٍ: مَا أَصَبْتُمْ فَلَكُمْ رُبْعُهُ أَوْ ثُلُثُهُ أَوْ قَالَ: فَهُوَ لَكُمْ وَذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِذَلِكَ تَحْرِيضٌ عَلَى الْقِتَالِ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ وَمَنْدُوبٌ إلَيْهِ.
قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ- {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ؛ لِأَنَّ التَّنْفِيلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ قَطْعُ حَقِّ الْغَانِمِينَ عَنْ النَّفْلِ أَصْلًا، لَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ فَفَعَلَهُ مَعَ سَرِيَّةٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَكُونُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَيَجُوزُ التَّنْفِيلُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالسَّلَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ يَتَحَقَّقُ فِي الْكُلِّ، وَالسَّلَبُ هُوَ ثِيَابُ الْمَقْتُولِ وَسِلَاحُهُ الَّذِي مَعَهُ، وَدَابَّتُهُ الَّتِي رَكِبَهَا بِسَرْجِهَا وَآلَاتِهَا، وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ مَالٍ فِي حَقِيبَةٍ عَلَى الدَّابَّةِ، أَوْ عَلَى وَسَطِهِ.
(وَأَمَّا) حَقِيبَةُ غُلَامِهِ، وَمَا كَانَ مَعَ غُلَامِهِ مِنْ دَابَّةٍ أُخْرَى، فَلَيْسَ بِسَلَبٍ وَلَوْ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ رَجُلٍ كَانَ السَّلَبُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ بَدَأَ أَحَدُهُمَا فَضَرَبَهُ، ثُمَّ أَجْهَزَهُ الْآخَرُ بِأَنْ كَانَتْ الضَّرْبَةُ الْأُولَى قَدْ أَثْخَنَتْهُ وَصَيَّرَتْهُ إلَى حَالٍ لَا يُقَاتِلُ وَلَا يُعِينُ عَلَى الْقِتَالِ فَالسَّلَبُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَتِيلُ الْأَوَّلِ.
وَإِنْ كَانَتْ الضَّرْبَةُ الْأُولَى لَمْ تُصَيِّرْهُ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فَالسَّلَبُ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّهُ قَتِيلُ الثَّانِي وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ قَتِيلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُ سَلَبُهُ وَهَلْ يَدْخُلُ الْإِمَامُ فِي التَّنْفِيلِ؟ إنْ قَالَ: فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مِنْكُمْ لَا يَدْخُلُ؛ لِأَنَّهُ خَصَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: مِنْكُمْ يَدْخُلْ؛ لِأَنَّهُ عَمَّ الْكَلَامَ، هَذَا إذَا نَفَّلَ الْإِمَامُ، فَإِنْ لَمْ يُنَفِّلْ شَيْئًا، فَقَتَلَ رَجُلٌ مِنْ الْغُزَاةِ قَتِيلًا لَمْ يَخْتَصَّ بِسَلَبِهِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إنْ قَتَلَهُ مُدْبِرًا مُنْهَزِمًا لَمْ يَخْتَصَّ بِسَلَبِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ مُقْبِلًا مُقَاتِلًا يَخْتَصُّ بِسَلَبِهِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَهَذَا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ» نَصْبُ الشَّرْعِ، وَلِأَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ مُقْبِلًا مُقَاتِلًا فَقَدْ قَتَلَهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ فَيَخْتَصُّ بِالسَّلَبِ، وَإِذَا قَتَلَهُ مُوَلِّيًا مُنْهَزِمًا فَإِنَّمَا قَتَلَهُ بِقُوَّةِ الْجَمَاعَةِ فَكَانَ السَّلَبُ غَنِيمَةً مَقْسُومَةً.
(وَلَنَا) أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ التَّنْفِيلِ وَالِاخْتِصَاصِ بِالْمُصَابِ مِنْ السَّلَبِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ إنْ كَانَ هُوَ الْجِهَادَ وُجِدَ مِنْ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الِاسْتِيلَاءَ وَالْإِصَابَةَ، وَالْأَخْذُ بِذَلِكَ حَصَلَ بِقُوَّةِ الْكُلِّ فَيَقْتَضِي الِاسْتِحْقَاقَ لِلْكُلِّ، فَتَخْصِيصُ الْبَعْضِ بِالتَّنْفِيلِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ قَطْعِ الْحَقِّ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} وَالتَّنْفِيلُ تَحْرِيضٌ عَلَى الْقِتَالِ بِإِطْمَاعِ زِيَادَةِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ زِيَادَةُ غِنًى وَفَضْلُ شَجَاعَةٍ، لَا يَرْضَى طَبْعُهُ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُخَاطَرَةِ الرُّوحِ، وَتَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْهَلَاكِ، إلَّا بِإِطْمَاعِ زِيَادَةٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَإِذَا لَمْ يَطْمَعْ لَا يَظْهَرُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الزِّيَادَةَ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَصَبَ ذَلِكَ الْقَوْلَ شَرْعًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَصَبَهُ شَرْطًا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَفَّلَ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، مَعَ الِاحْتِمَالِ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ أَبُو حَنِيفَةَ حُجَّةً لِمِلْكِ الْأَرْضِ الْمُحْيَاةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لِمِثْلِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) شَرْطُ جَوَازِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ حُصُولِ الْغَنِيمَةِ فِي يَدِ الْغَانِمِينَ، فَإِذَا حَصَلَتْ فِي أَيْدِيهِمْ فَلَا نَفْلَ؛ لِأَنَّ جَوَازَ التَّنْفِيلِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ، وَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا قَبْلَ أَخْذِ الْغَنِيمَةِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ» فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا نَفَّلَ مِنْ الْخُمْسِ، أَوْ مِنْ الصَّفِيِّ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي الْغَنَائِمِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ، فَسَمَّاهُ الرَّاوِي غَنِيمَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) حُكْمُ التَّنْفِيلِ فَنَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: اخْتِصَاصُ النَّفْلِ بِالْمُنَفَّلِ حَتَّى لَا يُشَارِكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَهَلْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ؟ فَفِيهِ كَلَامٌ نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ- شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا خُمْسَ فِي النَّفْلِ؛ لِأَنَّ الْخُمْسَ إنَّمَا يَجِبُ فِي غَنِيمَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَالنَّفَلُ مَا أَخْلَصَهُ الْإِمَامُ لِصَاحِبِهِ، وَقَطَعَ شَرِكَةَ الْأَغْيَارِ عَنْهُ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ وَيُشَارِكُ الْمُنَفَّلُ لَهُ الْغُزَاةَ فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ مَا أَصَابُوا؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ أَوْ الْجِهَادَ حَصَلَ بِقُوَّةِ الْكُلِّ، إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ خَصَّ الْبَعْضَ بِبَعْضِهَا، وَقَطَعَ حَقَّ الْبَاقِينَ عَنْهُ، فَبَقِيَ حَقُّ الْكُلِّ مُتَعَلِّقًا بِمَا وَرَاءَهُ فَيُشَارِكُهُمْ فِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْفَيْءُ فَهُوَ اسْمٌ لِمَا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ، وَلَا رِكَابٍ، نَحْوُ الْأَمْوَالِ الْمَبْعُوثَةِ بِالرِّسَالَةِ إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ عَلَى مُوَادَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَا خُمْسَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ إذْ هِيَ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ الْكَفَرَةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَقَدْ كَانَ الْفَيْءُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ، يَخْتَصُّهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ يُفَرِّقُهُ فِيمَنْ شَاءَ قَالَ اللَّهُ- تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ خَالِصَةً لَهُ وَكَانَ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَلِهَذَا كَانَتْ فَدَكُ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ كَانَتْ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ فَدَكَ لَمَّا بَلَّغَهُمْ أَهْلُ خَيْبَرَ «أَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجْلِيَهُمْ وَيَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ وَيُخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمْوَالِهِمْ، بَعَثُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَالَحُوهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ فَدَكَ، فَصَالَحَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ» ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَالِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَنَّهُ يَكُونُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا أَشْرَكَ قَوْمَهُ فِي الْمَالِ الْمَبْعُوثِ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ هَيْبَةَ الْأَئِمَّةِ بِسَبَبِ قَوْمِهِمْ، فَكَانَتْ شَرِكَةً بَيْنَهُمْ.
(وَأَمَّا) هَيْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ بِمَا نُصِرَ مِنْ الرُّعْبِ لَا بِأَصْحَابِهِ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرَيْنِ» لِذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَصَّ لِنَفْسِهِ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَأَخَذَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، يَكُونُ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْآخِذُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- يَكُونُ لِلْآخِذِ خَاصَّةً.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ مِنْ الْآخِذِ خَاصَّةً فَيَخْتَصُّ بِمِلْكِهِ، كَمَا إذَا دَخَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَاسْتَقْبَلَتْهَا سَرِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَأَخَذَتْهَا إنَّهُمْ يَخْتَصُّونَ بِمِلْكِهَا.
وَالدَّلِيلُ عَنْ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ وُجِدَ مِنْ الْآخِذِ خَاصَّةً أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْأَخْذُ، وَالِاسْتِيلَاءُ هُوَ إثْبَاتُ الْيَدِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حَقِيقَةً مِنْ الْآخِذِ خَاصَّةً، وَأَهْلُ الدَّارِ إنْ كَانَتْ لَهُمْ يَدٌ لَكِنَّهَا يَدٌ حُكْمِيَّةٌ، وَيَدُ الْحَرْبِيِّ حَقِيقِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ، وَالْحُرُّ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَالْيَدُ الْحُكْمِيَّةُ لَا تَصْلُحُ مُبْطِلَةً لِلْيَدِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا دُونَهَا، وَنَقْضُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ، أَوْ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ، لَا بِمَا هُوَ دُونَهُ فَأَمَّا يَدُ الْآخِذِ فَيَدٌ حَقِيقَةً، وَهِيَ مُحِقَّةٌ وَيَدُ الْحَرْبِيِّ مُبْطِلَةٌ، فَجَازَ إبْطَالُهَا بِهَا.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ وَجَدَ سَبَبَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ الْمُبَاحُ فَيَصِيرُ مِلْكًا لِلْكُلِّ، كَمَا إذَا اسْتَوْلَى جَمَاعَةٌ عَلَى صَيْدٍ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ ثَبَتَ يَدُ أَهْلِ الدَّارِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ فِي أَيْدِيهِمْ فَمَا فِي الدَّارِ يَكُونُ فِي أَيْدِيهِمْ أَيْضًا، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْغَانِمِينَ فِي الْغَنَائِمِ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، كَهَذَا هَاهُنَا قَوْلُهُ: يَدُ أَهْلِ الدَّارِ يَدٌ حُكْمِيَّةٌ، وَيَدُ الْحَرْبِيِّ حَقِيقِيَّةٌ، فَلَا تُبْطِلُهَا.
قُلْنَا وَيَدُ أَهْلِ الدَّارِ حَقِيقِيَّةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مِنْ الْيَدِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ الْقُدْرَةُ مِنْ حَيْثُ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ، وَلِأَهْلِ الدَّارِ آلَاتٌ سَلِيمَةٌ لَوْ اسْتَعْمَلُوهَا فِي التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ لَحَدَثَتْ لَهُمْ بِمَجْرَى الْعَادَةِ قُدْرَةٌ حَقِيقِيَّةٌ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُمْ مُقَاوَمَتُهُمْ وَمُعَارَضَتُهُمْ، مَعَ مَا أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ يَدُ الْآخِذِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، فَقَدْ ثَبَتَ يَدُ أَهْلِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ أَهْلِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ كُلَّهُمْ مَنَعَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهُمْ يَذُبُّونَ عَنْ دِينٍ وَاحِدٍ، فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ الْكُلِّ مَعْنًى، كَمَا إذَا دَخَلَ الْغُزَاةُ دَارَ الْحَرْبِ، فَأَخَذَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ الْكَفَرَةِ، فَإِنَّ الْمَأْخُوذَ يَكُونُ غَنِيمَةً مَقْسُومَةً بَيْنَ الْكُلِّ كَذَا هَذَا وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا السَّرِيَّتَانِ إذَا الْتَقَتَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَأَخَذَ مِنْهَا سَرِيَّةُ الْإِمَامِ فَإِنَّمَا اخْتَصُّوا بِمِلْكِهَا لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَهِيَ أَنَّ بِالْإِمَامِ حَاجَةً إلَى بَعْثِ السَّرَايَا لِحِرَاسَةِ الْحَوْزَةِ وَحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ عَنْ شَرِّ الْكَفَرَةِ، إذْ الْكَفَرَةُ يَقْصِدُونَ دَارَ الْإِسْلَامِ وَالدُّخُولَ فِي حُدُودِهَا بَغْتَةً، فَإِذَا عَلِمُوا بِبَعْثِ السَّرَايَا وَتَهَيُّئِهِمْ لِلذَّبِّ عَنْ حَرِيمِ الْإِسْلَامِ، قَطَعُوا الْأَطْمَاعَ فَبَقِيَتْ الْبَيْضَةُ مَحْرُوسَةً، فَلَوْ لَمْ يَخْتَصُّوا بِالْمَأْخُوذِ، لَمَا انْقَادَ طَبْعُهُمْ لِكِفَايَةِ هَذَا الشُّغْلِ، فَتَمْتَدُّ أَطْمَاعُ الْكَفَرَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا إذَا نَفَّلَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً، فَأَصَابُوا شَيْئًا يَخْتَصُّونَ بِهِ لِوُقُوعِ الْحَاجَةِ إلَى التَّنْفِيلِ؛ لِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْغُزَاةِ بِزِيَادَةِ شَجَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقَادُ طَبْعُهُ لِإِظْهَارِهِ، إلَّا بِالتَّرْغِيبِ بِزِيَادَةٍ مِنْ الْمُصَابِ بِالتَّنْفِيلِ كَذَا هَذَا.
وَهَلْ يَجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ؟ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْخُمْسَ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْغَنَائِمِ، وَالْغَنِيمَةُ اسْمٌ لِلْمَالِ الْمَأْخُوذِ عَنْوَةً وَقَهْرًا بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَلَمْ يُوجَدْ لِحُصُولِهِ فِي أَيْدِيهِمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَكَانَ مُبَاحًا، مُلِكَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْخُمْسُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ يَثْبُتُ بِأَخْذِهِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَكَانَ فِي حُكْمِ الْغَنَائِمِ، وَلَوْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ، ثُمَّ أَخَذَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ حُرًّا لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا فَرْعُ الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- كَمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ انْعَقَدَ سَبَبُ الْمِلْكِ فِيهِ لِوُقُوعِهِ فِي يَدِ أَهْلِ الدَّارِ، فَاعْتِرَاضُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ، وَعِنْدَهُمَا سَبَبُ الْمِلْكِ هُوَ: الْأَخْذُ حَقِيقَةً، فَكَانَ حُرًّا قَبْلَهُ حَيْثُ وُجِدَ الْإِسْلَامُ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ فِيهِ فَيُمْنَعُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلَوْ رَجَعَ هَذَا الْحَرْبِيُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَيْئًا بِالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ حَقَّ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَتَأَكَّدُ إلَّا بِالْأَخْذِ حَقِيقَةً، وَلَمْ يُوجَدْ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ أَصْلًا إلَّا بِحَقِيقَةِ الْأَخْذِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَصَارَ هَذَا كَمَا إذَا انْفَلَتَ وَاحِدٌ مِنْ الْأَسَارَى قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْتَحَقَ بِمَنَعَتِهِمْ إنَّهُ يَعُودُ حُرًّا كَمَا كَانَ كَذَا هَذَا وَلَوْ ادَّعَى هَذَا الْحَرْبِيُّ بِأَمَانٍ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ.
أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ دُخُولَ دَارِ الْحَرْبِ سَبَبُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَالْأَمَانُ عَارِضٌ مَانِعٌ مِنْ انْعِقَادِ السَّبَبِ، فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْعَارِضِ إلَّا بِحُجَّةٍ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ يَقِفُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَخْذِ فَكَانَ حُرًّا قَبْلَهُ فَكَأَنَّ دَعْوَى الْأَمَانِ دَعْوَى حُكْمِ الْأَصْلِ فَتُقْبَلُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْآخِذُ: إنِّي آمَنْتُهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ.
أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ فَلَا يُقْبَلُ، وَعِنْدَهُمَا هَذَا إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَوْ دَخَلَ هَذَا الْحَرْبِيُّ الْحَرَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ، فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَدُخُولُ الْحَرَمِ لَا يُبْطِلُ ذَلِكَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يُبْطِلْ الْمِلْكَ، فَالْحَرَمُ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الْحَرَمِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَكُونُ فَيْئًا إلَّا بِحَقِيقَةِ الْأَخْذِ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، لَكِنَّهُ لَا يُطْعَمُ، وَلَا يُسْقَى، وَلَا يُؤْوَى، وَلَا يُبَايَعُ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ.
وَلَوْ أَمَّنَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرَمِ أَوْ بَعْدَ مَا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ، وَيُرَدُّ إلَى مَأْمَنِهِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ صَارَ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِ دُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ فَيْئًا إلَّا بِحَقِيقَةِ الْأَخْذِ، فَإِذَا أَمَّنَهُ قَبْلَ الْأَخْذِ يَصِحُّ وَلَا يَصِحُّ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مَرْمُوقٌ وَلَوْ أَخَذَهُ رَجُلٌ فِي الْحَرَمِ وَأَخْرَجَهُ مِنْهُ فَقَدْ أَسَاءَ، وَكَانَ فَيْئًا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ لِمَنْ أَخَذَهُ، أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ ثَبَتَ بِدُخُولِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَالْأَخْذُ فِي الْحَرَمِ لَا يُبْطِلُهُ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ بِالْأَخْذِ وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ لَكِنَّ النَّهْيَ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فَلَا يَمْنَعُ كَوْنُهُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ فِي ذَاتِهِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ أَخَذَهُ فِي الْحَرَمِ وَلَمْ يُخْرِجْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ فِي الْحَرَمِ رِعَايَةً لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ مَا دَامَ فِيهِ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْغَنِيمَةُ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْغَنِيمَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْغَنَائِمِ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ الْغَنَائِمِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ، وَفِي بَيَانِ مَصَارِفِهَا أَمَّا.
الْأَوَّلُ: فَالْغَنِيمَةُ عِنْدَنَا اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ إمَّا بِحَقِيقَةِ الْمَنَعَةِ، أَوْ بِدَلَالَةِ الْمَنَعَةِ، وَهِيَ إذْنُ الْإِمَامِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- هِيَ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَيْفَ مَا كَانَ وَلَا يَشْتَرِطُ لَهُ الْمَنَعَةَ أَصْلًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ إذَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ لَهُمْ مَنَعَةٌ دَارَ الْحَرْبِ فَأَخَذُوا أَمْوَالًا مِنْهُمْ، فَإِنَّهَا تُقْسَمُ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ بِالْإِجْمَاعِ.
سَوَاءٌ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِوُجُودِ الْأَخْذِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ؛ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ الْمُقَاتَلَةِ حَقِيقَةً، وَأَقَلُّ الْمَنَعَةِ أَرْبَعَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «خَيْرُ الْأَصْحَابِ أَرْبَعَةٌ» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تِسْعَةٌ وَلَوْ دَخَلَ مَنْ لَا مَنَعَةَ لَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، كَانَ الْمَأْخُوذُ غَنِيمَةً فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا؛ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ دَلَالَةً عَلَى مَا نَذْكُرهُ وَلَوْ دَخَلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً عِنْدَنَا؛ لِانْعِدَامِ الْمَنَعَةِ أَصْلًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَكُونُ غَنِيمَةً.
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ وَالْغَنَمَ وَالْمَغْنَمَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَالٍ أُصِيبَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَأَوْجَفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ.
وَكَذَا إشَارَةُ النَّصِّ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوَجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} أَشَارَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إلَى أَنَّهُ مَا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً، وَإِصَابَةُ مَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمَنَعَةِ، إمَّا حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ مَنْ لَا مَنَعَةَ لَهُ لَا يُمْكِنُهُ الْأَخْذُ عَلَى طَرِيقِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَلَمْ يَكُنْ الْمَأْخُوذُ غَنِيمَةً بَلْ كَانَ مَالًا مُبَاحًا، فَيَخْتَصُّ بِهِ الْآخِذُ كَالصَّيْدِ، إلَّا إنْ أَخَذَاهُ جَمِيعًا فَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ أَخَذَا صَيْدًا، أَمَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَنَعَةِ فَيَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ.
أَمَّا حَقِيقَةُ الْمَنَعَةِ فَظَاهِرَةٌ، وَكَذَا دَلَالَةُ الْمَنَعَةِ وَهِيَ إذْنُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ بِالدُّخُولِ فَقَدْ ضَمِنَ لَهُ الْمَعُونَةَ بِالْمَدَدِ وَالنُّصْرَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَكَانَ دُخُولُهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ امْتِنَاعًا بِالْجَيْشِ الْكَثِيفِ مَعْنًى، فَكَانَ الْمَأْخُوذُ مَأْخُوذًا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَكَانَ غَنِيمَةً، فَهُوَ الْفَرْقُ وَلَوْ اجْتَمَعَ فَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا دَخَلَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَالْآخَرُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ، فَالْحُكْمُ فِي كُلِّ فَرِيقٍ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مَا هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، أَنَّهُ إنْ تَفَرَّدَ كُلُّ فَرِيقٍ بِأَخْذِ شَيْءٍ فَلِكُلِّ فَرِيقٍ مَا أَخَذَ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ كُلُّ فَرِيقٍ بِالدُّخُولِ، فَأَخَذَ شَيْئًا فَإِنْ اشْتَرَكَ الْفَرِيقَانِ فِي الْأَخْذِ، فَالْمَأْخُوذُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ الْآخِذِينَ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْمَأْذُونَ لَهُمْ بِخُمْسٍ وَيَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بَيْنَهُمْ مُشْتَرَكَةً فِيهِ الْآخِذُ وَغَيْرُ الْآخِذِ؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ، وَهَذَا سَبِيلُ الْغَنَائِمِ، وَمَا أَصَابَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ لَا خُمْسَ فِيهِ، فَيَكُونُ بَيْنَ الْآخِذِينَ، وَلَا يُشَارِكُهُمْ الَّذِينَ لَمْ يَأْخُذُوا؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ.
وَهَذَا حُكْمُ الْمَالِ الْمُبَاحِ عَلَى مَا بَيَّنَّا هَذَا إذَا اجْتَمَعَ فَرِيقَانِ وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ، فَأَمَّا إذَا اجْتَمَعَا وَكَانَ لَهُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ مَنَعَةٌ، فَمَا أَصَابَ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَوْ جَمَاعَتَهُمْ بِخُمُسٍ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ غَنِيمَةٌ لِوُجُودِ الْمَنَعَةِ، فَكَانَ وُجُودُ الْإِذْنِ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ كَانَ الَّذِينَ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَهُمْ مَنَعَةٌ، ثُمَّ لَحِقَهُمْ لِصٌّ أَوْ لِصَّانِ لَا مَنَعَةَ لَهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ثُمَّ لَقَوْا قِتَالًا وَأَصَابُوا مَالًا وَأَصَابُوا غَنَائِمَ، فَمَا أَصَابَ الْعَسْكَرَ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ اللِّصُّ، فَإِنَّ هَذَا اللِّصَّ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ، وَمَا أَصَابُوهُ بَعْدَ أَنْ لَحِقَ هَذَا اللِّصُّ بِهِمْ فَإِنَّهُ يُشَارِكُهُمْ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ قَبْلَ اللَّحَاقِ حَصَلَتْ بِقِتَالِ الْعَسْكَرِ حَقِيقَةً، وَكَذَلِكَ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ غُنْيَةً عَنْ مَعُونَةِ اللِّصِّ فَكَانَ دُخُولُهُ فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمُصَابِ قَبْلَ اللَّحَاقِ وَعَدَمِهِ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْجَيْشَ إذَا لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ أَنَّهُ يُشَارِكُهُمْ فِيمَا أَصَابُوا؛ لِأَنَّ الْجَيْشَ يَسْتَعِينُ بِالْمَدَدِ لِقُوَّتِهِمْ، فَكَانَ الْإِحْرَازُ حَاصِلًا بِالْكُلِّ.
وَكَذَلِكَ الْإِصَابَةُ بَعْدَ اللُّحُوقِ حَصَلَتْ بِاسْتِيلَاءِ الْكُلِّ، لِذَلِكَ شَارَكَهُمْ بِخِلَافِ اللِّصِّ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ-.
وَلَوْ أَخَذَ وَاحِدٌ مِنْ الْجَيْشِ شَيْئًا مِنْ الْمَتَاعِ الَّذِي لَهُ قِيمَةٌ، وَلَيْسَ فِي يَدِ إنْسَانٍ مِنْهُمْ، كَالْمَعَادِنِ وَالْكُنُوزِ وَالْخَشَبِ وَالسَّمَكِ، فَذَلِكَ غَنِيمَةٌ، وَفِيهِ الْخُمْسُ، وَذَلِكَ الْوَاحِدُ إنَّمَا أَخَذَهُ بِمَنَعَةِ الْجَمَاعَةِ وَقُوَّتِهِمْ، فَكَانَ مَالًا مَأْخُوذًا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَكَانَ غَنِيمَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ الشَّيْءِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ قِيمَةٌ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ لَا يَقَعُ فِيهِ تَمَانُعٌ وَتَدَافُعٌ، فَلَا يَقَعُ أَخْذُهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً، وَلَوْ أَخَذَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ نَحْوُ الْخَشَبِ فَعَمِلَهُ آنِيَةً أَوْ غَيْرَهَا رَدَّهُ إلَى الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ قِيمَةٌ بِذَاتِهِ فَالْعَمَلُ فِيهِ فَضْلٌ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُتَقَوِّمًا فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً لِمَا قُلْنَا، وَلَا خُمْسَ فِيمَا يُؤْخَذُ عَلَى مُوَادَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَأْخُوذٍ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً، وَكَذَا مَا بُعِثَ رِسَالَةً إلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ لَا خُمْسَ فِيهِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ قَلْعَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَافْتَدَوْا أَنْفُسَهُمْ بِمَالٍ فَفِيهِ الْخُمْسُ؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ لِكَوْنِهِ مَأْخُوذًا عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْغَنَائِمِ، فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ الْإِمَامُ عَلَى بِلَادِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَالْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ: الْمَتَاعُ، وَالْأَرَاضِي، وَالرِّقَابُ، أَمَّا الْمَتَاعُ: فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ وَيُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَلَا خِيَارَ لِلْإِمَامِ فِيهِ.
وَأَمَّا الْأَرَاضِي فَلِلْإِمَامِ فِيهَا خِيَارَانِ إنْ شَاءَ خَمَّسَهَا وَيَقْسِمُ الْبَاقِيَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا فِي يَدِ أَهْلِهَا بِالْخَرَاجِ وَجَعَلَهُمْ ذِمَّةً إنْ كَانُوا بِمَحَلِّ الذِّمَّةِ، بِأَنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَجَمِ، وَوَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيهِمْ وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الْأَرَاضِيَ فِي أَيْدِيهِمْ بِالْخَرَاجِ بَلْ يَقْسِمُهَا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْأَرَاضِيَ صَارَتْ مِلْكًا لِلْغُزَاةِ بِالِاسْتِيلَاءِ، فَكَانَ التَّرْكُ فِي أَيْدِيهِمْ إبْطَالًا لِمِلْكِ الْغُزَاةِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ كَالْمَتَاعِ.
(وَلَنَا) إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا فَتَحَ سَوَادَ الْعِرَاقَ تَرَكَ الْأَرَاضِيَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَضَرَبَ عَلَى رُءُوسِهِمْ الْجِزْيَةَ، وَعَلَى أَرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ.
وَأَمَّا الرِّقَابُ فَالْإِمَامُ فِيهَا بَيْنَ خِيَارَاتٍ، ثَلَاثٍ، إنْ شَاءَ قَتَلَ الْأَسَارَى مِنْهُمْ، وَهُمْ الرِّجَالُ الْمُقَاتِلَةُ، وَسَبَى النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ؛ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} وَهَذَا بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ هُوَ الْإِبَانَةُ مِنْ الْمِفْصَلِ، وَلَا يُقْدَرُ عَلَى ذَلِكَ حَالَ الْقِتَالِ، وَيُقْدَرُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ وَرُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَسَارَى بَدْرٍ، فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى الْفِدَاءِ، وَأَشَارَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى الْقَتْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ جَاءَتْ مِنْ السَّمَاءِ نَارٌ مَا نَجَا إلَّا عُمَرُ».
أَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى أَنَّ الصَّوَابَ كَانَ هُوَ الْقَتْلَ وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَبِقَتْلِ هِلَالِ بْنِ خَطَلٍ وَمَقِيسِ بْنِ صَبَابَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْقَتْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِئْصَالِهِمْ، فَكَانَ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّ الْكُلَّ فَخَمَسَهُمْ وَقَسَمَهُمْ، لِأَنَّ الْكُلَّ غَنِيمَةٌ حَقِيقَةً لِحُصُولِهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَنْوَةً وَقَهْرًا بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْسِمَ الْكُلَّ إلَّا رِجَالَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُسْتَرَقُّونَ عِنْدَنَا، بَلْ يُقْتَلُونَ أَوْ يُسْلِمُونَ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُ مُشْرِكِي الْعَجَمِ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْعَجَمِ، وَالْعَرَبِ فَكَذَا اسْتِرْقَاقُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَالْمُرْتَدِّينَ، وَهَذَا لِأَنَّ لِلِاسْتِرْقَاقِ حُكْمَ الْكُفْرِ، وَهُمْ فِي الْكُفْرِ سَوَاءٌ، فَكَانُوا فِي احْتِمَالِ الِاسْتِرْقَاقِ سَوَاءٌ.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} وَلِأَنَّ تَرْكَ الْقَتْلِ بِالِاسْتِرْقَاقِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُشْرِكِي الْعَجَمِ؛ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ وَمَعْنَى الْوَسِيلَةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ مِنْهُمْ فَيُسْتَرَقُّونَ كَمَا يُسْتَرَقُّ نِسَاءُ مُشْرِكِي الْعَجَمِ وَذَرَارِيِّهِمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَرَقَّ نِسَاءَ هَوَازِنَ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَهُمْ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ.
وَكَذَا الصَّحَابَةُ اسْتَرَقُوا نِسَاءَ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ الْعَرَبِ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَإِنْ شَاءَ مَنَّ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَهُمْ أَحْرَارًا بِالذِّمَّةِ، كَمَا فَعَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُمْ بِالذِّمَّةِ وَعَقْدِ الْجِزْيَةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بِالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ شَهِدُوا بِشَهَادَةٍ قَبْلَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ الْإِمَامُ ذِمَّةً لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَرْبِ، فَإِنْ جَعَلَهُمْ ذِمَّةً فَأَعَادُوا الشَّهَادَةَ جَازَتْ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَقْبُولَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا شَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ فَغَيْرُ مَقْبُولَةٍ أَصْلًا، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنَّ عَلَى الْأَسِيرِ فَيَتْرُكَهُ مِنْ غَيْرِ ذِمَّةٍ، لَا يَقْتُلُهُ وَلَا يَقْسِمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَرَجَعَ إلَى الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُ حَرْبًا عَلَيْنَا، فَإِنْ قِيلَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَّ عَلَى الزُّبَيْرِ بْنِ بَاطَالَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ.
وَكَذَا مَنَّ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَّ عَلَى الزُّبَيْرِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ إمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ تُرِكَ بِالْجِزْيَةِ أَمْ بِدُونِهَا، فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ تَرَكَهُ بِالْجِزْيَةِ وَبِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَأَمَّا أَهْلُ خَيْبَرَ فَقَدْ كَانُوا أَهْلَ الْكِتَابِ فَتَرَكَهُمْ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ لِيَصِيرُوا كَرَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ الْمَنُّ لِذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ، فَيَكُونُ تَرْكًا بِالْجِزْيَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى.
وَهَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَادِيَ الْأَسَارَى؟ أَمَّا الْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: مُفَادَاةُ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُرْجَى لَهُ وَلَدٌ تَجُوزُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ كَيْفَ مَا كَانَ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ- عَزَّ وَجَلَّ- {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وَقَدْ فَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسَارَى بَدْرٍ بِالْمَالِ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَوَازُ، وَالْإِبَاحَةُ.
(وَلَنَا) أَنَّ قَتْلَ الْأَسْرَى مَأْمُورٌ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} وَأَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا بَعْدَ الْأَخْذِ وَالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا قُلْنَا، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْإِسْلَامِ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا لِمَا شُرِعَ لَهُ الْقَتْلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ بِالْمُفَادَاةِ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْمَفْرُوضِ لِأَجَلِهِ، وَيَحْصُلُ بِالذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ لِمَا بَيَّنَّا فَكَانَ إقَامَةً لِلْفَرْضِ مَعْنًى لَا تَرْكًا لَهُ، وَلِأَنَّ الْمُفَادَاةَ بِالْمَالِ إعَانَةٌ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى الْحِرَابِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: مَعْنَى الْإِعَانَةِ لَا يَحْصُلُ مِنْ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُرْجَى مِنْهُ وَلَدٌ فَجَازَ فِدَاؤُهُ بِالْمَالِ، وَلَكِنَّنَا نَقُولُ: إنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَحْصُلُ بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ الرَّأْيُ وَالْمَشُورَةُ وَتَكْثِيرُ السَّوَادِ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.
وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} الْآيَةَ لِأَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فِيمَنْ مُنَّ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَسْرِهِمْ عَلَى أَنْ يَصِيرُوا كَرَّةً لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَهْلِ خَيْبَرَ، أَوْ ذِمَّةً كَمَا فَعَلَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَهْلِ السَّوَادِ، وَيُسْتَرَقُّونَ.
(وَأَمَّا) أَسَارَى بَدْرٍ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ الْوَحْيَ فَعُوتِبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} حَتَّى قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ نَارًا مَا نَجَا إلَّا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ» يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْ التَّأْوِيلِ أَيْ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَأْخُذَ الْفِدَاءَ فِي الْأَسَارَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ حَتَّى يَغْلِبَ فِي الْأَرْضِ مَنَعَةً عَنْ أَخْذِ الْفِدَاءِ بِهَا، وَأَشَارَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ لِيَغْلِبَ فِي الْأَرْضِ؛ إذْ لَوْ أَطْلَقَهُمْ لَرَجَعُوا إلَى الْمَنَعَةِ، وَصَارُوا حَرْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْغَلَبَةُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُفَادَاةَ كَانَتْ جَائِزَةً ثُمَّ انْتَسَخَتْ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ}، {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.
وَإِنَّمَا عُوتِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ} لَا لِخَطَرِ الْمُفَادَاةِ، بَلْ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَنْتَظِرْ بُلُوغَ الْوَحْيِ، وَعَمِلَ بِاجْتِهَادِهِ، أَيْ لَوْلَا مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَحَدًا عَلَى الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ، لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ بِالْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ، وَتَرْكِكُمْ انْتِظَارَ الْوَحْيِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَكَذَا لَا تَجُوزُ مُفَادَاةُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى إعَانَتِهِمْ عَلَى الْحَرْبِ، وَتَجُوزُ مُفَادَاةُ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَيْسَ فِيهَا إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى الْحَرْبِ، وَلَا يُفَادُونَ بِالسِّلَاحِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لَهُمْ عَلَى الْحَرْبِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) مُفَادَاةُ الْأَسِيرِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ- وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَجُوزُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ فِي الْمُفَادَاةِ إنْقَاذَ الْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إهْلَاكِ الْكَافِرِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ فُرِضَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} وقَوْله تَعَالَى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا لِمَا شُرِعَ لَهُ إقَامَةُ الْفَرْضِ وَهُوَ التَّوَسُّلُ إلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَرْكًا مَعْنًى، وَذَا لَا يَحْصُلُ بِالْمُفَادَاةِ، وَيَحْصُلُ بِالذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ فِيمَنْ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِيهَا إعَانَةً لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى الْمَنَعَةِ فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَلَا تَجُوزُ بَعْدَهَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَجُوزُ فِي الْحَالَيْنِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ الْمُفَادَاةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنْ لَمْ يَثْبُتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَالْحَقُّ ثَابِتٌ، ثُمَّ قِيَامُ الْحَقِّ لَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ الْمُفَادَاةِ، فَكَذَا قِيَامُ الْمِلْكِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُفَادَاةَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ إبْطَالُ مِلْكِ الْمَقْسُومِ لَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِي الْأَصْلِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، إنَّمَا الثَّابِتُ حَقٌّ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِلْإِبْطَالِ بِالْمُفَادَاةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْ الْأَسَارَى، وَيُؤْخَذَ بَدَلَهُ رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ كَمْ مِنْ وَاحِدٍ يَغْلِبُ اثْنَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيُؤَدِّي إلَى الْإِعَانَةِ عَلَى الْحَرْبِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِذَا عَزَمَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى قَتْلِ الْأَسَارَى، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبُوهُمْ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْذِيبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْذِيبٌ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَقَدْ رُوِيَ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ «لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ هَذَا الْيَوْمِ، وَحَرَّ السِّلَاحِ، وَلَا تُمَثِّلُوا بِهِمْ؛» لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي وَصَايَا الْأُمَرَاءِ «وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَ صَاحِبِهِ»؛ لِأَنَّهُ لَهُ ضَرْبُ اخْتِصَاصٍ بِهِ حَيْثُ أَخَذَهُ وَأَسَرَهُ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ، كَمَا لَوْ الْتَقَطَ شَيْئًا وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْإِمَامَ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ الْإِمَامُ هُوَ الْحَكَمَ فِيهِ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُزَاةِ بِهِ، فَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ لِلْإِمَامِ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ مِنْ الْأَسَارَى مَنْ بَلَغَ إمَّا بِالسِّنِّ، أَوْ بِالِاحْتِلَامِ عَلَى قَدْرِ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَبْلُغْ أَوْ شُكَّ فِي بُلُوغِهِ فَلَا يُقْتَلُ، وَكَذَا الْمَعْتُوهُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ، فَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ وَلَا قِيمَةٍ؛ لِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَإِنَّ لِلْإِمَامِ فِيهِ خِيَرَةَ الْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ وَلَا قِيمَةٍ؛ لِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّ لِلْإِمَامِ فِيهِ خِيَرَةَ الْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَ الْبَيْعِ فَيُرَاعَى فِيهِ حُكْمُ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَسَمَهُمْ أَوْ بَاعَهُمْ فَقَدْ صَارَ دَمُهُمْ مَعْصُومًا، فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْقَتْلِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِقِيَامِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ كَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ خِيَارِ الْقَتْلِ لِلْإِمَامِ فِي الْأَسَارَى قَبْلَ الْقِسْمَةِ إذَا لَمْ يُسْلِمُوا، فَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا يُبَاحُ قَتْلُهُمْ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عَاصِمٌ، وَلِلْإِمَامِ خِيَارَانِ فِيهِمْ، إنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ فَقَسَمَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا بِالذِّمَّةِ إنْ كَانُوا بِمَحَلِّ الذِّمَّةِ وَالِاسْتِرْقَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَرْفَعُ الرِّقَّ، إمَّا لَا يَرْفَعُهُ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُزَاةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْقِسْمَةُ نَوْعَانِ، قِسْمَةُ حَمْلٍ وَنَقْلٍ، وَقِسْمَةُ مِلْكٍ.
(أَمَّا) قِسْمَةُ الْحَمْلِ، فَهِيَ إنْ عَزَّتْ الدَّوَابُّ، وَلَمْ يَجِدْ الْإِمَامُ حَمُولَةً يُفَرِّقُ الْغَنَائِمَ عَلَى الْغُزَاةِ فَيَحْمِلُ كُلُّ رَجُلٍ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا مِنْهُمْ فَيَقْسِمُهَا قِسْمَةَ مِلْكٍ، وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا تَكُونُ قِسْمَةَ مِلْكٍ كَالْمُودِعَيْنِ يَقْتَسِمَانِ الْوَدِيعَةَ لِيَحْفَظَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضَهَا جَازَ ذَلِكَ، وَتَكُونُ قِسْمَةَ مِلْكٍ فَكَذَا هَذَا.
(وَأَمَّا) قِسْمَةُ الْمِلْكِ فَلَا تَجُوزُ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- تَجُوزُ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ هَلْ يَثْبُتُ فِي الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْغُزَاةِ؟ فَعِنْدَنَا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ أَصْلًا فِيهَا، لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَا مِنْ وَجْهٍ، وَلَكِنْ يَنْعَقِدُ سَبَبُ الْمِلْكِ فِيهَا عَلَى أَنْ تَصِيرَ عِلَّةً عِنْدَ الْأَحْرَارِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ حَقِّ الْمِلْكِ، أَوْ حَقِّ التَّمَلُّكِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَهُ فِي حَالِ فَوْرِ الْهَزِيمَةِ قَوْلَانِ، وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ:
(مِنْهَا) أَنَّهُ إذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُورَثُ نَصِيبُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُورَثُ وَاَللَّهُ تَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) أَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ فَأَحْرَزُوا الْغَنَائِمَ جُمْلَةً إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يُشَارِكُونَهُمْ فِيهَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يُشَارِكُونَهُمْ.
(وَمِنْهَا) أَنَّهُ إذَا أَتْلَفَ وَاحِدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَضْمَنُ.
(وَمِنْهَا) أَنَّ الْإِمَامَ إذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ الْغَنَائِمِ لَا لِحَاجَةِ الْغُزَاةِ، لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ.
(وَمِنْهَا) أَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَسَمَ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُجَازِفًا غَيْرَ مُجْتَهِدٍ وَلَا مُعْتَقِدٍ جَوَازَ الْقِسْمَةِ لَا تَجُوزُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ تَجُوزُ.
(فَأَمَّا) إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْقِسْمَةَ فَقَسَمَهَا نَفَذَتْ قِسْمَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى الْبَيْعَ فَبَاعَهَا؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ أَمْضَاهُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، بِالِاجْتِهَادِ فَيَنْفُذُ.
(وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَسَمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ بِخَيْبَرَ، وَقَسَمَ غَنَائِمَ أَوْطَاسٍ بِأَوْطَاسٍ، وَقَسَمَ غَنَائِمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فِي دِيَارِهِمْ، وَقَسَمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ بِالْجِعْرَانَةِ» وَهِيَ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ بَدْرٍ، وَأَدْنَى مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ فِعْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ الْجَوَازُ وَالْإِبَاحَةُ، وَلِأَنَّهُ وَجَدَ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ اسْتِدْلَالًا بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ مَالٌ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْكَافِرِ، وَأَنَّهُ مُبَاحٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحَقُّقِ الِاسْتِيلَاءِ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْمَحَلِّ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حَقِيقَةً، وَإِنْكَارُ الْحَقَائِقِ مُكَابَرَةٌ، وَرَجْعَةُ الْكُفَّارِ بَعْدَ انْهِزَامِهِمْ وَاسْتِرْدَادِهِمْ أَمْرٌ مَوْهُومٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَلَا يُعْتَبَرُ.
(وَلَنَا) أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إنَّمَا يُفِيدُ الْمِلْكَ إذَا وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْكَفَرَةِ قَائِمٌ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْكَفَرَةِ كَانَ ثَابِتًا لَهُمْ، وَالْمِلْكُ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِإِزَالَتِهِ، أَوْ يَخْرُجُ الْمَحَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ حَقِيقَةً بِالْهَلَاكِ، أَوْ بِعَجْزِ الْمَالِكِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ دَفْعًا لِلتَّنَاقُضِ فِيمَا شُرِعَ الْمِلْكُ لَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
(أَمَّا) الْإِزَالَةُ وَهَلَاكُ الْمَحَلِّ فَظَاهِرُ الْعَدَمِ.
(وَأَمَّا) قُدْرَةُ الْكَفَرَةِ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِأَمْوَالِهِمْ؛ فَلِأَنَّ الْغُزَاةَ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَالِاسْتِرْدَادُ لَيْسَ بَنَادِرِ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ أَوْ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ، وَالْمِلْكُ كَانَ ثَابِتًا لَهُمْ فَلَا يَزُولُ مَعَ الِاحْتِمَالِ.
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ: فَأَمَّا غَنَائِمُ خَيْبَرَ وَأَوْطَاسَ وَالْمُصْطَلِقِ، فَإِنَّمَا قَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الدِّيَارِ؛ لِأَنَّهُ افْتَتَحَهَا فَصَارَتْ دِيَارَ الْإِسْلَامِ.
(وَأَمَّا) غَنَائِمُ بَدْرٍ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَمَهَا بِالْمَدِينَةِ، فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مَعَ التَّعَارُضِ ثُمَّ الْمِلْكُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ لِلْغُزَاةِ فِي الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَدْ ثَبَتَ الْحَقُّ لَهُمْ حَتَّى يَجُوزَ لَهُمْ الِانْتِفَاعُ بِهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ، وَلَوْلَا تَعَلُّقُ الْحَقِّ لَجَازَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَالًا مُبَاحًا وَكَذَا لَوْ وَطِئَ وَاحِدٌ مِنْ الْغُزَاةِ جَارِيَةً مِنْ الْمَغْنَمِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهَا حَقًّا فَأُورِثَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُقْرُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بِالْوَطْءِ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْ مَنَافِعِ بِضْعِهَا، وَلَوْ أَتْلَفَهَا لَا يَضْمَنُ، فَهَاهُنَا أَوْلَى وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ أَيْضًا لَوْ ادَّعَى الْوَلَدَ؛ لِأَنَّ ثَبَاتَ النَّسَبِ مُعْتَمَدُ الْمِلْكِ أَوْ الْحَقِّ الْخَاصِّ، وَلَا مِلْكَ هَاهُنَا، وَالْحَقُّ عَامٌّ.
وَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَكُونُ حُرًّا، وَيَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَانِمِينَ بِهِ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَالِاسْتِيلَاءِ، فَاعْتِرَاضُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ لَا يُبْطِلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ الْأَسْرِ أَنَّهُ يَكُونُ حُرًّا، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ، فَكَانَ الْإِسْلَامُ دَافِعًا الْحَقَّ، لَا رَافِعًا إيَّاهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
(وَأَمَّا) بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ، أَوْ يَتَأَكَّدُ الْحَقُّ وَيَتَقَرَّرُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ الثَّابِتَ انْعَقَدَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ، أَوْ تَأَكُّدِ الْحَقِّ عَلَى أَنْ يَصِيرَ عِلَّةً عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهَا، وَهُوَ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ وُجِدَ، فَتَجُوزُ الْقِسْمَةُ وَيَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ، وَيَضْمَنُ الْمُتْلِفُ، وَتَنْقَطِعُ شَرِكَةُ الْمَدَدِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ وَاحِدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ عَبْدًا مِنْ الْمَغْنَمِ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ نَفَاذَ الْإِعْتَاقِ يَقِفُ عَلَى الْمِلْكِ الْخَاصِّ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِالْقِسْمَةِ، فَأَمَّا الْمَوْجُودُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَمِلْكٌ عَامٌّ، أَوْ حَقٌّ مُتَأَكَّدٌ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِعْتَاقَ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ وَالْقِسْمَةَ، وَيَكْفِي لِإِيجَابِ الضَّمَانِ، وَانْقِطَاعِ شَرِكَةِ الْمَدَدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً مِنْ الْمَغْنَمِ وَادَّعَى الْوَلَدَ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ اسْتِحْسَانًا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ وَأُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ يَقِفَانِ عَلَى مِلْكٍ خَاصٍّ، وَذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ، أَوْ حَقٍّ خَاصٍّ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَيَلْزَمُهُ الْعُقْرُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمِلْكَ الْعَامَّ أَوْ الْحَقَّ الْخَاصَّ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ.
(وَأَمَّا) بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ الْخَاصُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ الْأَنْصِبَاءِ وَتَعْيِينُهَا، وَلَوْ قَسَمَ الْإِمَامُ الْغَنَائِمَ فَوَقَعَ عَبْدٌ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فَأَعْتَقَهُ، لَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ مِلْكًا خَاصًّا فَأَمَّا إذَا وَقَعَ فِي سَهْمِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَبْدٌ فَأَعْتَقَهُ أَحَدُهُمْ، يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَلَّ الشُّرَكَاءُ أَوْ كَثُرُوا.
(وَرُوِيَ) عَنْ أَبِي يُوسُفَ إنْ كَانُوا عَشَرَةً أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ فَأَبُو حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- نَظَرَ فِي خُصُوصِ الْمِلْكِ إلَى الْقِسْمَةِ، وَأَبُو يُوسُفَ إلَى الْعَدَدِ، وَالصَّحِيحُ نَظَرُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَمْيِيزٌ وَتَعْيِينٌ، فَكَانَتْ قَاطِعَةً لِعُمُومِ الشَّرِكَةِ، مُخَصِّصَةً لِلْمِلْكِ وَإِنْ كَثُرَ الْعَدَدُ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَلَوْ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً ثُمَّ غَلَبَهُمْ الْعَدُوُّ فَاسْتَنْقَذُوهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ، ثُمَّ جَاءَ عَسْكَرٌ آخَرُ فَأَخَذَهَا مِنْ الْعَدُوِّ فَأَخْرَجُوهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ اخْتَصَمَ الْفَرِيقَانِ نُظِرَ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُونَ لَمْ يَقْتَسِمُوهَا وَلَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَالْغَنِيمَةُ لِلْآخَرِينَ، لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ إلَّا مُجَرَّدُ حَقٍّ غَيْرِ مُتَقَرِّرٍ، وَقَدْ ثَبَتَ لِلْآخَرِينَ مِلْكٌ عَامٌّ أَوْ حَقٌّ مُتَقَرِّرٌ يَجْرِي مَجْرَى الْمِلْكِ، فَكَانُوا أَوْلَى بِالْغَنَائِمِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُونَ قَدْ اقْتَسَمُوهَا فَالْقِسْمَةُ لَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْقِسْمَةِ مِلْكًا خَاصًّا، فَإِذَا غَلَبَهُمْ الْكُفَّارُ فَقَدْ اسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْلَاكِهِمْ، فَإِنْ وَجَدُوهَا فِي يَدِ الْآخَرِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءُوا كَمَا فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْعَدُوُّ، ثُمَّ وَجَدُوهَا فِي يَدِ الْغَانِمِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَقْتَسِمُوهَا وَلَكِنَّهُمْ أَحْرَزُوهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ قِسْمَةِ الْآخَرِينَ فَالْآخَرُونَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهُمْ مِلْكٌ خَاصٌّ بِالْقِسْمَةِ وَالثَّابِتِ لِلْأَوَّلِينَ مِلْكٌ عَامٌّ أَوْ حَقٌّ مُتَقَرِّرٌ عَامٌّ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الْمِلْكِ الْخَاصِّ أَوْلَى.
(وَأَمَّا) إذَا وَجَدَهَا قَبْلَ قِسْمَةِ الْآخَرِينَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْأَوَّلِينَ أَوْلَى، وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْآخَرِينَ أَوْلَى.
(وَجْهُ) رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ أَنَّ الثَّابِتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْحَقَّ الْمُتَأَكَّدَ، لَكِنَّ نَقْضَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ بِمِثْلِهِ كَمَا فِي النَّسْخِ، وَلِهَذَا جَازَ نَقْضُ الْمِلْكِ بِالْمِلْكِ.
(وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ حَقَّ الْآخَرِينَ ثَابِتٌ مُتَقَرِّرٌ، وَحَقُّ الْأَوَّلِينَ زَائِلٌ ذَاهِبٌ، فَاسْتِصْحَابُ الْحَالَةِ الثَّابِتَةِ أَوْلَى، إذْ هُوَ يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمِلْكِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْتَقَضَ الْحَادِثُ بِالْقَدِيمِ إلَّا أَنَّ النَّقْضَ هُنَاكَ ثَبَتَ نَصًّا (بِخِلَافِ) الْقِيَاسِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، هَذَا إذَا كَانَ الْكُفَّارُ أَحْرَزُوا الْأَمْوَالَ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَإِنْ كَانُوا لَمْ يُحْرِزُوهَا حَتَّى أَخَذَهَا الْفَرِيقُ الْآخَرُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَالْغَنَائِمُ لِلْأَوَّلِينَ سَوَاءٌ قَسَمَهَا الْآخَرُونَ أَوْ لَمْ يَقْسِمُوهَا؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ إلَّا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَكَانَتْ الْغَنَائِمُ فِي حُكْمِ يَدِ الْأَوَّلِينَ مَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْآخَرُونَ أَخَذُوهُ مِنْ أَيْدِي الْأَوَّلِينَ فَيَلْزَمُهُمْ الرَّدُّ عَلَيْهِ، إلَّا إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَسَمَهَا بَيْنَ الْآخَرِينَ وَرَأْيُهُ أَنَّ الْكَفَرَةَ قَدْ مَلَكُوهَا بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَالِاسْتِيلَاءِ.
وَإِنْ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ النَّاسِ، فَكَانَتْ قِسْمَةً فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَتَنْفُذُ، وَتَكُونُ لِلْآخَرِينَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ شَرْطًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْغَنَائِمِ الْمُشْتَرَكَةِ.
(وَأَمَّا) الْغَنَائِمُ الْخَالِصَةُ وَهِيَ الْأَنْفَالُ، فَهَلْ هُوَ شَرْطٌ فِيهَا؟ (قَالَ) بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إنَّهُ شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى لَا يَثْبُتَ الْمِلْكُ بَيْنَهُمَا فِيهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَالْإِصَابَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَسْأَلَةٍ ظَهَرَ فِيهَا اخْتِلَافٌ، وَهِيَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا نَفَّلَ، فَقَالَ: مَنْ أَصَابَ جَارِيَةً فَهِيَ لَهُ.
فَأَصَابَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ جَارِيَةً، فَاسْتَبْرَأَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بِحَيْضَةٍ، لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحِلُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْأَنْفَالِ بِالْإِجْمَاعِ وَاخْتِلَافُهُمَا فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْلِ، فَقَدْ ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ فِي الْغَنِيمَةِ الْمَقْسُومَةِ، فَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا قَسَمَ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَصَابَ رَجُلٌ جَارِيَةً فَاسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ، فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَكَذَا لَوْ رَأَى الْإِمَامُ بَيْعَ الْغَنَائِمِ، فَبَاعَ مِنْ رَجُلٍ جَارِيَةً فَاسْتَبْرَأَهَا الْمُشْتَرِي بِحَيْضَةٍ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ.
(وَلَا خِلَافَ) بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي الْغَنَائِمِ الْمَقْسُومَةِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ دَلَّ أَنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ هُنَاكَ شَيْءٌ آخَرُ وَرَاءَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَعَدَمِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي النَّفْلِ لَا يَقِفُ عَلَى الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، بِخِلَافِ الْغَنَائِمِ الْمَقْسُومَةِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الْأَخْذُ وَالِاسْتِيلَاءُ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحُكْمِ عَنْ سَبَبٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَفِي الْغَنَائِمِ الْمَقْسُومَةِ ضَرُورَةٌ، وَهِيَ خَوْفُ شَرِّ الْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ لَاشْتَغَلُوا بِالْقِسْمَةِ، وَلَتَسَارَعَ كُلُّ أَحَدٍ إلَى إحْرَازِ نَصِيبِهِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَتَفَرَّقَ الْجَمْعُ، وَفِيهِ خَوْفُ تَوَجُّهِ الشَّرِّ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكَفَرَةِ، فَتَأَخَّرَ الْمِلْكُ فِيهَا إلَى مَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْعَدِمَةٌ فِي الْأَنْفَالِ؛ لِأَنَّهَا خَالِصَةٌ غَيْرُ مَقْسُومَةٍ، فَلَا مَعْنَى لِتَأْخِيرِ الْحُكْمِ عَنْ السَّبَبِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ لَا يُشَارِكُ الْمُنَفَّلُ لَهُ كَمَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ الْمَقْسُومَةِ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْمُنَفَّلُ لَهُ يُورَثُ نُصِيبُهُ، كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ، بِخِلَافِ الْغَنِيمَةِ الْمَقْسُومَةِ فَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ الْمِلْكَ فِي النَّفْلِ لَا يَقِفُ عَلَى الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، إلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْمِلْكِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ حِلِّ الْوَطْءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمِلْكِ أَصْلًا، أَلَا تَرَى أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ قَدْ يَمْتَنِعُ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ لِعَوَارِضَ: مِنْ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالْمَحْرَمِيَّة، وَالصِّهْرِيَّة، وَنَحْوِ ذَلِكَ؟.
ثُمَّ إنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ الْحِلُّ هُنَاكَ مَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُتَزَلْزِلٌ غَيْرُ مُتَقَرِّرٍ لِاحْتِمَالِ الزَّوَالِ سَاعَةً فَسَاعَةً؛ لِأَنَّ الدَّارَ دَارُهُمْ فَكَانَ احْتِمَالُ الِاسْتِرْدَادِ قَائِمًا، وَمَتَى اسْتَرَدُّوا يَرْتَفِعْ السَّبَبُ مِنْ حِينِ وُجُودِهِ، وَيَلْتَحِقْ بِالْعَدَمِ، إمَّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ، وَلِهَذَا- وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ-.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا بَعْدَ قِسْمَةِ الْإِمَامِ وَبَيْعِهِ إذَا رَأَى ذَلِكَ، وَإِنْ وَقَعَتْ قِسْمَتُهُ جَائِزَةً وَبَيْعُهُ نَافِذًا مُفِيدًا لِلْمِلْكِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا بَيَانُ) مَا يَجُوزُ بِهِ الِانْتِفَاعُ مِنْ الْغَنَائِمِ، وَمَا لَا يَجُوزُ، فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) فِي بَيَانِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْهَا.
(وَالثَّانِي) فِي بَيَانِ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ.
(أَمَّا الْأَوَّلُ) فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَالْعَلَفِ وَالْحَطَبِ مِنْهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَقِيرًا كَانَ الْمُنْتَفِعُ أَوْ غَنِيًّا؛ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ فِي حَقِّ الْكُلِّ، فَإِنَّهُمْ لَوْ كُلِّفُوا حَمْلَهَا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ مُدَّةَ ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ وَمُقَامِهِمْ فِيهَا لَوَقَعُوا فِي حَرَجٍ عَظِيمٍ، بَلْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ شَرْعًا وَالْتَحَقَتْ هَذِهِ الْمَحَالُّ بِالْمُبَاحَاتِ الْأَصْلِيَّةِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ مَأْكُولًا مِثْلَ السَّمْنِ وَالزَّيْتِ وَالْخَلِّ لَا بَأْسَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الرَّجُلُ وَيُدْهِنَ بِهِ نَفْسَهُ، وَدَابَّتَهُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَازِمَةٌ.
وَمَا كَانَ مِنْ الْأَدْهَانِ لَا يُؤْكَلُ مِثْلُ الْبَنَفْسَجِ وَالْخَيْرِيِّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ لَيْسَ مِنْ الْحَاجَاتِ اللَّازِمَةِ، بَلْ مِنْ الْحَاجَاتِ الزَّائِدَةِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَبِيعُوا شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ وَلَا عُرُوضٍ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ، وَإِسْقَاطَ اعْتِبَارِ الْحُقُوقِ وَإِلْحَاقِهَا بِالْعَدَمِ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ هُوَ الْمَالُ الْمَمْلُوكُ، وَهَذَا لَيْسَ بِمَالٍ مَمْلُوكٍ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ بِالدَّارِ شَرْطُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَإِنْ بَاعَ رَجُلٌ شَيْئًا رَدَّ الثَّمَنَ إلَى الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ مَالٍ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَانِمِينَ فَكَانَ مَرْدُودًا إلَى الْمَغْنَمِ، وَلَوْ أَحْرَزُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُقْسَمُ الْغَنَائِمُ رَدُّوهَا إلَى الْمَغْنَمِ؛ لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ.
وَإِنْ كَانَتْ قَدْ قُسِمَتْ الْغَنِيمَةُ فَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ تَصَدَّقُوا بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ انْتَفَعُوا بِهِ لِتَعَذُّرِ قِسْمَتِهِ عَلَى الْغُزَاةِ لِكَثْرَتِهِمْ وَقِلَّتِهِ، فَأَشْبَهَ اللُّقَطَةَ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ- أَعْلَمُ.
هَذَا إذَا كَانَتْ قَائِمَةً بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ كَانَ انْتَفَعَ بِهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ كَانَ غَنِيًّا تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالًا لَوْ كَانَ قَائِمًا لَكَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ لِكَوْنِهِ مَالًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَانِمِينَ، وَتَعَذَّرَ صَرْفُهُ إلَيْهِمْ لِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِمْ، فَيَقُومُ بَدَلُهُ مَقَامَهُ، وَهُوَ قِيمَتُهُ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالًا لَوْ كَانَ قَائِمًا لَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَا سِوَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَالْعَلَفِ وَالْحَطَبِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَانِمِينَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَفِي الِانْتِفَاعِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ، إلَّا أَنَّهُ إذَا احْتَاجَ إلَى اسْتِعْمَالِ شَيْءٍ مِنْ السِّلَاحِ أَوْ الدَّوَابِّ أَوْ الثِّيَابِ، فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ، بِأَنْ انْقَطَعَ سَيْفُهُ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ سَيْفًا مِنْ الْغَنِيمَةِ فَيُقَاتِلَ بِهِ لَكِنَّهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ رَدَّهُ إلَى الْمَغْنَمِ.
وَكَذَا إذَا احْتَاجَ إلَى رُكُوبِ فَرَسٍ، أَوْ لُبْسِ ثَوْبٍ إذَا دَفَعَ حَاجَتَهُ بِذَلِكَ، رَدَّهُ إلَى الْمَغْنَمِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ الضَّرُورَةِ أَيْضًا، لَكِنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَعَدَّى مَحَلَّ الضَّرُورَةِ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وِقَايَةً لِسِلَاحِهِ وَدَوَابِّهِ وَثِيَابِهِ وَصِيَانَةً لَهَا، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ؛ لِانْعِدَامِ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ، وَهَكَذَا إذَا ذَبَحُوا الْبَقَرَ أَوْ الْغَنَمَ وَأَكَلُوا اللَّحْمَ وَرَدُّوا الْجُلُودَ إلَى الْمَغْنَمِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ لَيْسَ مِنْ الْحَاجَاتِ اللَّازِمَةِ، وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ مَنْ يَنْتَفِعُ بِالْغَنَائِمِ، فَنَقُولُ: إنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إلَّا الْغَانِمُونَ، فَلَا يَجُوزُ لِلتُّجَّارِ أَنْ يَأْكُلُوا شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ إلَّا بِثَمَنٍ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، وَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، وَلِلْغَانِمِينَ أَنْ يَأْكُلُوا وَيُطْعِمُوا عَبِيدَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَصِبْيَانَهُمْ؛ لِأَنَّ إنْفَاقَ الرَّجُلِ عَلَى هَؤُلَاءِ إنْفَاقٌ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، فَلَهُ أَنْ يُطْعِمَهُ، وَمَنْ لَا فَلَا وَلَا يَجُوزُ لِأَجِيرِ الرَّجُلِ لِلْخِدْمَةِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَيْهِ وَلِلْمَرْأَةِ إذَا دَخَلَتْ دَارَ الْحَرْبِ لِمُدَاوَاةِ الْمَرْضَى وَالْجَرْحَى أَنْ تَأْكُلَ وَتَعْلِفَ دَابَّتَهَا وَتُطْعِمَ رَقِيقَهَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَكَانَتْ مِنْ الْغَانِمِينَ وَاَللَّه- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ، وَبَيَانُ مَصَارِفِهَا، فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْغَنَائِمُ تُقْسَمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، مِنْهَا وَهُوَ خُمْسُ الْغَنِيمَةِ لِأَرْبَابِهِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْغَانِمِينَ أَمَّا الْخُمْسُ، فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ قِسْمَةِ الْخُمْسِ، وَفِي بَيَانِ مَصْرِفِهِ، فَنَقُولُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّ خُمْسَ الْغَنِيمَةِ فِي حَالِ حَيَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُقْسَمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، سَهْمٌ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وَإِضَافَةُ الْخُمْسِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ مَصْرُوفًا إلَى وُجُوهِ الْقُرَبِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الْآيَةَ عَلَى مَا تُضَافُ الْمَسَاجِدُ وَالْكَعْبَةُ إلَى اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لِكَوْنِهَا مَوَاضِعَ إقَامَةِ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ- تَعَالَى وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَعْظِيمًا لِلْخُمْسِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالْأَصْلُ فِي إضَافَةِ جُزْئِيَّةِ الْأَشْيَاءِ إلَى اللَّهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنَّهَا تَخْرُجُ مَخْرَجَ تَعْظِيمِ الْمُضَافِ، كَقَوْلِهِ: نَاقَةُ اللَّهِ، وَبَيْتُ اللَّهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِخُلُوصِهِ- لِلَّهِ تَعَالَى- بِخُرُوجِهِ عَنْ تَصَرُّفِ الْغَانِمِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وَالْمُلْكُ فِي كُلِّ الْأَيَّامِ كُلِّهَا لِلَّهِ تَعَالَى لَكِنْ خَصَّ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ذَلِكَ الْيَوْمَ بِالْمُلْكِ لَهُ فِيهِ؛ لِانْقِطَاعِ تَصَرُّفِ الْأَغْيَارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى بَعْدَ وَفَاتِهِ أَمَّا سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ: إنَّهُ سَقَطَ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ، وَيُصْرَفُ إلَى الْخُلَفَاءِ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا كَانَ يَأْخُذُهُ كِفَايَةً لَهُ لِاشْتِغَالِهِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ مَشْغُولُونَ بِذَلِكَ فَيُصْرَفُ سَهْمُهُ إلَيْهِمْ كِفَايَةً لَهُمْ.
(وَلَنَا) أَنَّ ذَلِكَ الْخُمْسَ كَانَ خُصُوصِيَّةً لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَالصَّفِيِّ الَّذِي كَانَ لَهُ خَاصَّةً، وَالْفَيْءُ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ خُصُوصٌ مِنْ الْفَيْءِ وَالصَّفِيِّ، فَكَذَا يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ خُصُوصٌ مِنْ الْخُمْسِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ بَعْدَهُ لَكَانَ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّا- مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ- لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ».
(وَأَمَّا) سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- إنَّهُ بَاقٍ وَيُصْرَفُ إلَى أَوْلَادِ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ أَوْلَادِ سَيِّدَتِنَا فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَغَيْرِهَا، يَسْتَوِي فِيهِ فَقِيرُهُمْ وَغَنِيُّهُمْ.
(وَأَمَّا) عِنْدَنَا فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ بَقِيَ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ أَنَّهُ كَيْفَ كَانَ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ لِفُقَرَاءِ الْقَرَابَةِ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ، يُعْطَوْنَ لِفَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ لَا لِقَرَابَتِهِمْ، وَقَدْ بَقِيَ كَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى فُقَرَاءُ قَرَابَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كِفَايَتَهُمْ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ، وَيُقَدَّمُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَيُجَاوَزُ لَهُمْ مِنْ الْخُمْسِ أَيْضًا لِمَا لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ الصَّدَقَاتِ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى غَيْرُهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ فَيُقَسَّمُ الْخُمْسُ عِنْدَنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَيَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ، وَيُقَدَّمُونَ، وَلَا يُدْفَعُ إلَى أَغْنِيَائِهِمْ شَيْءٌ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لِذَوِي الْقُرْبَى سَهْمٌ عَلَى حِدَةٍ يُصْرَفُ إلَى غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} الْآيَةَ فَإِنَّ- اللَّهَ تَعَالَى- جَعَلَ سَهْمًا لِذَوِي الْقُرْبَى، وَهُمْ الْقَرَابَةُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «قَسَمَ الْخُمْسَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَأَعْطَى سَهْمًا مِنْهَا لِذَوِي الْقُرْبَى»، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ نَاسِخٌ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَلَا نَسْخَ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
(وَلَنَا) مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ السِّيَرِ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ، وَسَيِّدَنَا عُمَرَ، وَسَيِّدَنَا عُثْمَانَ، وَسَيِّدَنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَسَمُوا الْغَنَائِمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى قَرَابَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ مُخَالَفَةُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُخَالَفَةُ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي فِعْلِهِ وَمَنْعُ الْحَقِّ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ، وَكَذَا لَا يُظَنُّ بِمَنْ حَضَرَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ السُّكُوتُ عَمَّا لَا يَحِلُّ مَعَ مَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَكَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ ذَوِي الْقُرْبَى يَتَنَاوَلُ عُمُومَ الْقَرَابَاتِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} وَلَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ قَرَابَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَكَذَا قَوْلُهُ: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} لَمْ يَنْصَرِفْ إلَى قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ قَسَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخُمْسَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، فَأَعْطَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَا الْقُرْبَى سَهْمًا» فَنَعَمْ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خَاصَّةً وَكَذَا قَوْلُهُ: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} وَلَمْ يَنْصَرِفْ إلَى قَرَابَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ أَوْ لِقَرَابَتِهِمْ وَقَدْ عَلِمْنَا بِقِسْمَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ لِحَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ لَا لِقَرَابَتِهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُشَدِّدُ فِي أَمْرِ الْغَنَائِمِ فَتَنَاوَلَ مِنْ وَبَرِ بَعِيرٍ، وَقَالَ: «مَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ وَلَا وَزْنُ هَذِهِ الْوَبَرَةِ إلَّا الْخُمْسُ وَهُوَ مَرْدُودٌ فِيكُمْ، رُدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ، فَإِنَّ الْغَلُولَ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» لَمْ يَخُصَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَرَابَةَ بِشَيْءٍ مِنْ الْخُمْسِ بَلْ عَمَّ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْخُمْسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ فَدَلَّ أَنَّ سَبِيلَهُمْ سَبِيلُ سَائِرِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، يُعْطَى مَنْ يَحْتَاجُ مِنْهُمْ كِفَايَتَهُ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ وَلَوْ أُعْطِيَ أَيُّ فَرِيقٍ اتَّفَقَ مِمَّنْ سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى جَازَ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ لِبَيَانِ الْمَصَارِفِ لَا لِإِيجَابِ الصَّرْفِ إلَى كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ شَيْئًا، بَلْ لِتَعْيِينِ الْمَصْرِفِ حَتَّى لَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى غَيْرِ هَؤُلَاءِ، كَمَا فِي الصَّدَقَاتِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ فَفِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ مَنْ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ مِنْهُ وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الِاسْتِحْقَاقِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَاَلَّذِي يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ مِنْهَا هُوَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ الْمُقَاتِلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، وَسَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ وَالْقِتَالَ إرْهَابُ الْعَدُوِّ، وَذَا كَمَا يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ يَحْصُلُ بِثَبَاتِ الْقَدَمِ فِي صَفِّ الْقِتَالِ رَدًّا لِلْمُقَاتَلَةِ خَشْيَةَ كَرِّ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ وَكَذَا رُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ بَدْرٍ كَانُوا ثَلَاثًا: ثُلُثٌ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ وَيَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَثُلُثٌ يَجْمَعُونَ الْغَنَائِمَ، وَثُلُثٌ يَكُونُونَ رَدًّا لَهُمْ خَشْيَةَ كَرِّ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ.
وَسَوَاءٌ كَانَ مَرِيضًا أَوْ صَحِيحًا، شَابًّا أَوْ شَيْخًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا مَأْذُونًا بِالْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ.
(فَأَمَّا) الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ، وَالذِّمِّيُّ وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ، فَلَيْسَ لَهُمْ سَهْمٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِتَالُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالذِّمِّيِّ أَصْلًا؟ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ؟ وَهِيَ ضَرُورَةُ عُمُومِ النَّفِيرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقُّوا كَمَالَ السَّهْمِ، وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْإِمَامُ وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «كَانَ لَا يُعْطِي الْعَبِيدَ وَالصِّبْيَانَ وَالنِّسْوَانَ سَهْمًا كَامِلًا مِنْ الْغَنَائِمِ».
وَكَذَا لَا سَهْمَ لِلتَّاجِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ إلَّا إذَا قَاتَلَ مَعَ الْعَسْكَرِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَسْكَرُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ دَخَلَ الدَّارَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فَكَانَ مُقَاتِلًا، وَلَا سَهْمَ لِلْأَجِيرِ لِانْعِدَامِ الدُّخُولِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، فَإِنْ قَاتَلَ نُظِرَ فِي ذَلِكَ إنْ تَرَكَ الْخِدْمَةَ فَقَدْ دَخَلَ فِي جُمْلَةِ الْعَسْكَرِ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ فَلَا شَيْءَ لَهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتْرُكْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ مِقْدَارِ الِاسْتِحْقَاقِ وَبَيَانُ حَالِ الْمُسْتَحِقِّ وَهُوَ الْمُقَاتِلُ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْمُقَاتِلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِلًا.
(وَإِمَّا) أَنْ يَكُونَ فَارِسًا فَإِنْ كَانَ رَاجِلًا فَلَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَرِوَايَاتُ الْأَخْبَارِ تَعَارَضَتْ فِي الْبَابِ، رُوِيَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «قَسَمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ» وَفِي بَعْضِهَا «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَمَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ» إلَّا أَنَّ رِوَايَةَ السَّهْمَيْنِ عَاضَدَهَا الْقِيَاسُ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ أَصْلٌ فِي الْجِهَادِ، وَالْفَرَسُ تَابِعٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ.
أَلَا تَرَى أَنَّ فِعْلَ الْجِهَادِ يَقُومُ بِالرَّجُلِ وَحْدَهُ، وَلَا يَقُومُ بِالْفَرَسِ وَحْدَهُ، فَكَانَ الْفَرَسُ تَابِعًا فِي بَابِ الْجِهَادِ وَلَا يَجُوزُ تَنْفِيلُ التَّبَعِ عَلَى الْأَصْلِ فِي السَّهْمِ، وَأَخْبَارُ الْآحَادِ إذَا تَعَارَضَتْ، فَالْعَمَلُ بِمَا عَاضَدَهُ الْقِيَاسُ أَوْلَى وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْلَمُ.
وَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَتِيقُ مِنْ الْخَيْلِ وَالْفَرَسِ وَالْبِرْذَوْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي النُّصُوصِ بَيْنَ فَارِسٍ وَفَارِسٍ، وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ سَهْمِ الْفَرَسِ لِحُصُولِ إرْهَابِ الْعَدُوِّ بِهِ وَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَصَفَ جِنْسَ الْخَيْلِ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} فَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ، وَلَا يُسْهَمُ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُسْهَمُ لِفَرَسَيْنِ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الْغَازِيَ تَقَعُ الْحَاجَةُ لَهُ إلَى فَرَسَيْنِ، يَرْكَبُ أَحَدَهُمَا وَيُجَنِّبُ الْآخَرَ حَتَّى إذَا أَعْيَا الْمَرْكُوبُ عَنْ الْكَرِّ وَالْفَرِّ تَحَوَّلَ إلَى الْجَنِيبَةِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمْ أَنَّ الْإِسْهَامَ لِلْخَيْلِ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْخَيْلَ آلَةُ الْجِهَادِ ثُمَّ لَا يُسْهَمُ لِسَائِرِ آلَاتِ الْجِهَادِ، فَكَذَا الْخَيْلُ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ كَفَرَسٍ وَاحِدٍ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تُرَدُّ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ عَلَى أَنَّ وُرُودَ الشَّرْعِ إنْ كَانَ مَعْلُولًا بِكَوْنِهِ آلَةً مُرْهِبَةً لِلْعَدُوِّ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْآلَاتِ فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ أَصْلُ الْإِرْهَابِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لِمَا زَادَ عَلَى فَرَسَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، مَعَ أَنَّ مَعْنَى الْإِرْهَابِ يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْفَرَسِ.
ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي حَالِ الْمُقَاتِلِ مِنْ كَوْنِهِ فَارِسًا، أَوْ رَاجِلًا فِي أَيِّ وَقْتٍ يُعْتَبَرُ وَقْتُ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ أَمْ وَقْتُ شُهُودِ الْوَقْعَةِ، فَعِنْدَنَا يُعْتَبَرُ وَقْتُ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ إذَا دَخَلَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يُعْتَبَرُ وَقْتُ شُهُودِ الْوَقْعَةِ، حَتَّى إنَّ الْغَازِيَ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَمَاتَ فَرَسُهُ أَوْ نَفَرَ، أَوْ أَخَذَهُ الْعَدُوُّ فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَهُ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْغَنِيمَةِ بِالْجِهَادِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَقْتَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ بِالْمُقَاتَلَةِ، وَدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ بَابِ قَطْعِ الْمَسَافَةِ لَا مِنْ بَابِ الْمُقَاتَلَةِ.
(وَلَنَا) أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ الْغَنَائِمَ لِلْمُجَاهِدِينَ، قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} وَقَالَ- تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ- {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} وَقَالَ- جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَكِبْرِيَاؤُهُ- {وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ، وَاَلَّذِي جَاوَزَ الدَّرْبَ فَارِسًا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ مُجَاهِدٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إرْهَابُ الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُ جِهَادٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ إرْهَابُ الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُ جِهَادٌ قَوْلُهُ- عَزَّ وَجَلَّ- {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وَلِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَا تَخْلُو عَنْ عُيُونِ الْكُفَّارِ وَطَلَائِعِهِمْ، فَإِذَا دَخَلَهَا جَيْشٌ كَثِيفٌ رِجَالًا وَرُكْبَانًا فَالْجَوَاسِيسُ يُخْبِرُونَهُمْ بِذَلِكَ، فَيَقَعُ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى يَتْرُكُوا الْقُرَى وَالرَّسَاتِيقَ هَرَبًا إلَى الْقِلَاعِ وَالْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ، فَكَانَ مُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ إرْهَابَ الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُ جِهَادٌ.
وَالثَّانِي أَنَّ فِيهِ غَيْظَ الْكَفَرَةِ وَكَبْتَهُمْ؛ لِأَنَّ وَطْءَ أَرْضِهِمْ وَعُقْرَ دَارِهِمْ مِمَّا يَغِيظُهُمْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} وَفِيهِ قَهْرُهُمْ وَمَا الْجِهَادُ إلَّا قَهْرُ أَعْدَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لِإِعْزَازِ دِينِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ فَدَلَّ أَنَّ مُجَاوَزَةَ الدَّرْبِ فَارِسًا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ جِهَادٌ وَمَنْ جَاهَدَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ، وَمَنْ جَاهَدَ رَاجِلًا فَلَهُ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ، بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ.
وَأَمَّا أَمْرُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي وَقْعَةٍ خَاصَّةٍ، بِأَنْ وَقَعَ الْقِتَالُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي أَرْضٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا، ثُمَّ لَحِقَ الْمَدَدُ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ صِيَانَةً لَهَا عَنْ التَّنَاقُضِ، وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ: إنَّ الْمَدَدَ لَا يُشَارِكُونَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ إلَّا إذَا شَهِدُوهَا، وَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ رَاجِلًا ثُمَّ اشْتَرَى فَرَسًا أَوْ اسْتَأْجَرَ، أَوْ اسْتَعَارَ أَوْ وُهِبَ لَهُ فَلَهُ سَهْمُ الرِّجَالِ عِنْدَنَا؛ لِاعْتِبَارِ وَقْتِ الدُّخُولِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ؛ لِاعْتِبَارِ وَقْتِ الشُّهُودِ وَقَالَ الْحَسَنُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إذَا قَاتَلَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ فَارِسٍ، وَعَلَى هَذَا إذَا دَخَلَ فَارِسًا ثُمَّ بَاعَ فَرَسَهُ أَوْ آجَرَهُ، أَوْ وَهَبَهُ أَوْ أَعَارَهُ فَقَاتَلَ وَهُوَ رَاجِلٌ فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ، ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- أَنَّ لَهُ سَهْمَ فَارِسٍ، وَسَوَّى عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْمَوْتِ، وَبَيْنَ الْبَيْعِ قَبْلَ شُهُودِ الْوَقْعَةِ وَبَعْدَهَا وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُجَاوَزَةَ فَارِسًا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ دَلِيلُ الْجِهَادِ فَارِسًا، وَلَمَّا بَاعَ فَرَسَهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْجِهَادَ فَارِسًا، بَلْ قَصَدَ بِهِ التِّجَارَةَ، وَكَذَا هَذَا فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالرَّهْنِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ شُهُودِ الْوَقْعَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَعْدَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْغَازِيَ لَا يَبِيعُ فَرَسَهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِقَصْدِ التِّجَارَةِ عَادَةً، بَلْ لِقَصْدِ ثَبَاتِ الْقَدَمِ وَالتَّشَمُّرِ لِلْقِتَالِ بِعَامَّةِ مَا فِي وُسْعِهِ وَإِمْكَانِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.